كل الفرقاء يريدون المرأة، هذه هي ترجمة الصورة الماثلة أمامنا عن الصراع المستمر حولها، فجميعهم يخطب ودها بدعوى النضال من أجلها والسعي لما فيه خيرها.
أما موقفها من هذا الصراع فإن الغالب عليها وقوفها موقف المستجيب لأحد الأطراف المتنازعة فيها، مع ضعف أثرها في الجانب التنظيري رغم محاولة الكثيرات منهن البروز على هيئة داعيات لمبادئهن لا مستجيبات وحسب إلا أن هذه المحاولات بالرغم من حظها الكبير الذي نالته من الضجيج الإعلامي ظلت قليلة الأثر في هذه الخصومة وظل دور المرأة الواضح هو في حسم هذا النزاع بمقدار ما تقدمه من الإستجابة لأحد أطرافه.
هكذا هي الصورة كما أراها: المرأة فيها هي مادة الحسم بين الفرقاء فمن تتبعه المرأة وتسير على نهجه هو الفائز في السباق سواء أكان اتِّباع المرأة إياه إيمانا بما ينادي به أم ضعفا أمام أهواء بشرية، لأن الخلاف حول المرأة بين الإسلاميين والعلمانيين أو الإسلاميين وبعضهم ليس خلافا فكريا لا يفسد للود قضية، كما يصوره البعض، ولا خلافا عمليا في عبادة خاصة يبقى أثر الخطأ فيه محصورا في العامل والمجتهد، بل خلاف فكري وعملي معا، فهو فكري في حقيقة المرأة والغاية من خلقها ودورها في هذه الحياة وما لها من حقوق وما عليها من واجبات، ومصدر الحكم في حقوقها وواجباتها، وهو عملي لتأثيره في بنية المجتمع والحكم على ماضيه وحاضره والتخطيط لمستقبله، لإفضائه إلى تغيير موازين الرؤى في التربية والتعليم والإدارة والإقتصاد والتاريخ وربما الجغرافيا.
ومما أحرزه أصحاب الأهواء من تقدم في معركتهم غير الشريفة، إلصاق مصطلح الحق إلى كل ما ينادون به للمرأة، حتى أصبح مضافا لكل فكرة خلافية بيننا وبينهم، وبلغ من شيوع هذه الإضافة أن صارت ألسنتنا تنزلق بها عند الحديث عن هذه القضايا دون قصد منا لمدلولها، وكأنها من المركبات الإضافية اللازمة لتلك الكلمات.
ونجاح فريق في تثبيت مصطلحاته حتى تتواطأ عليها الألسنة، مرحلة مهمة من مراحل النجاح في إستقطاب الجماهير لأفكاره وترسيخ شرعيتها بينهم، لذلك تنبغي العناية بنقد المصطلحات وعدم السماح بإمرارها للأمة على هيئة مسلمات لا نقاش فيها، فإذا كان المصطلح المراد تثبيته هو الحق كانت العناية بعدم إمراره والإغترار به أوجب وألزم.
فقد قال المناوي في التعاريف ج1-ص287: الحق لغة الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وعرفا الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب بإعتبار إشتمالها على ذلك ويقابله الباطل.
وعلى هذا التعريف لا يمكن إطلاق الحق على ما لا نسلم بإستحقاقه سواء أكان ذلك للمرأة أم للرجل، بل لا يصح إطلاق هذه العبارة على مباح يمكن أن يستجلب بالمنع منه مصلحة تراد في الدين أو الدنيا.
كما أن وصف الحق على تعريفه المتقدم لا يمكن أن يُكتسب إلا بدليل منقول أو معقول على أن نسبة هذا الموصوف إلى المرأة ثابتة لا يسوغ إنكارها وأن ما عداها هو الباطل، فالمنقول فيما كان مصدر الإثبات فيه الشريعة، والمعقول في ما مصدر إثباته العرف أو النظام، ولا يخفى أن ما تمتلئ به صحائف المطالبات للمرأة مرد الحكم فيها إلى الشريعة، فالقطع بأنها حقوق دون إستحضار الدليل القاطع عليها كالقطع بنفي إستحقاق المرأة لها دون دليل سواء بسواء.
= ماذا نقول إذا أردنا أن تسمعنا المرأة:
ولأن المرأة -كما قدمت- هي مادة الحسم في معركة مع دعاة الهوى والبعد عن شرع الله تعالى، رأت فئة من الدعاة والعلماء أن إنقاذ المرأة من دعاوى الأهوائيين لا يتم إلا بشي من التنازل لبعض هذه المطالبات غير المشروعة بدعوى المصلحة المرسلة تارة ودعوى عدم كفاية الأدلة في المنع تارة أخرى.
والواقع أن مثل هذه التنازلات ليست في جملتها إنصياعا للدليل كما يحاولون إثباته، بل هي نزول عند ضغط الواقع أو ضغط مصطلح الحق الذي أدى شيوعه إلى الشد من أزر المطالبين والمطالبات.
فإذا أثبتنا أن حق المرأة هو ما أثبته لها الدليل، وأن واجبنا تكييف الواقع ليكون مع الدليل لا لي عنق الدليل ليدرك الواقع، ثبت لنا: أن مطالبنا للمرأة أولى بمصطلح الحق من مطالبات خصومنا لها، وإستطعنا أن نعكس الدفة بإتجاهنا لنقول مثلا: حق المرأة في القرار في البيت، بدلا من حق المرأة في العمل، وحق المرأة في المحرم، بدلا من حق المرأة في السفر وحدها، وحق المرأة في الولاية، بدلا من حق المرأة في التحرر.
وسنكون أسعد بالمرأة في حسم المعركة لصالحنا حين نبدأ بمطالبة بعضنا قبل غيرنا بما فرطنا نحن في كثير منه مما كفله الشرع للمسلمين رجالا ونساء من حقوق نجد المرأة أقل حظوة بها من الرجل عندنا، أعني: من تبنى الشريعة غاية ومسلكا، وقد أدى إنشغالنا عن تصحيح مسارنا فيها لا إلى التباطؤ في إعطائها وحسب بل إلى وقوعنا في خطأ أعظم وهو تسويغ هذا التباطؤ بل وشرعنته أيضا، وذلك حين نُصدم بأن من نعدهم خصوما لنا في هذه المعركة يسبقوننا إلى تبني هذه المطالب الشرعية لها، وبدلا من أن نأخذ الراية منهم ونقول نحن أولى بها، نجد أن منا من يقف ضدها إما بحجة سوء ظنه بهؤلاء المطالبين وأن مطالبتهم هذه حق أريد به باطل، وإما لكونه قد ألف هذا الأمر ويظن كل ما ألفه مشروعا.
ومن أمثلة ذلك نفقة المرأة: أليست على وليها؟ فلماذا تحتاج كثير من النساء لأن يذهبن إلى المحاكم للمطالبة بهذا الحق؟ لماذا لا يصل إليهن دون مطالبة، ألم تكن المطالبة أمام المحاكم عائقا لهن دون بلوغ حقهن؟ لماذا لا نبادر نحن بالمطالبة بإستحداث نظام تحصل المرأة بموجبه على حقها من نفقة وليها دون أن نلجئها لتركه بسيف الحياء أو بتكاليف القضاء المادية والمعنوية؟.
والعجيب هنا أن بعض القضاة وفقهم الله من مزيد الحرص على العفاف وإشاعة القيم يلزمون المرأة بإحضار محرم لها في الجلسة مع أن المحرم قد يكون هو المدعى عليه، ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكلف النساء بالمحرم حين مطالبتهن بحقوقهن في مجالسه وليس إحضار المحرم شرطا في النظام.
وكذلك الأمر في حضانة المرأة المطلقة لأطفالها وحقها في طلب الخلع، وغير ذلك من القضايا التي نسمع فيها وهذا مما يؤسف له أصوات من نسميهم بالليبراليين والعلمانيين، وبدلا من أن نقول لهم صدقتم في هذه ونحن أهلها ونرفع أصواتنا لتعلوا بالحق على أصواتهم، نجد العكس من الكثيرين حيث يقفون في الجانب غير الصائب لا لشئ إلا لأن المطالبة جاءت من غير أصحاب التوجه الديني.
ومما يجعلنا أيضا سعداء بالمرأة أن لا نسعى إليها بالتنازل عن مواقفنا التي بنيناها على الدليل الصحيح من أجل ضغط الواقع وضغط مصطلح الحق، وجعلنا لتسويغ هذا التنازل ما ليس بدليل دليلا، فنحن لا نفتأ نسمع من المتنازلين كلاما في معرض الإستدلال لمواقفهم كتقديم أنفسنا للغرب وعدم التنفير من الإسلام وإتخاذ الموقف الوسط ومراعاة العصر والسير بهن قبل أن ينفلتن ويسرن دوننا، إلى غير ذلك من الكلمات التي نقرأها في بعضٍ فتاوى من نسمع لهم ونقدر سابقتهم في الدعوة والجهاد، لكنهم مع ذلك أخذوا يعدلون مثل هذا الكلام بالدليل حينا ويقدمونه على الدليل الصحيح أحيانا أخرى.
وليس هذا التنازل في تقديري مما يجذب المرأة إلينا كما توهموا لأن المرأة التي تنصاع لأوامر الشرع لا تفعل ذلك لموافقته هواها بل لإعتقادها حقا أن هذا هو حكم الله تعالى في المسألة، ومن كانت منهن لا تلتزم بأوامر الشرع إلا إذا صممت أحكامه مع ما يتوافق وتصوراتها أو أهوائها فهذه ثغرة في صفوفنا وليست مكسبا لنا أو سندا، لأنها -وهذا ما يحدث فعلا- سوف تظل دائما تزعجنا بالمطالبة بمجاراة ذوقها في تصميم الأحكام كما تصمم التحف والمقتنيات، فالمنهج الحق إن شاء الله تعالى في إتباع الدليل في جميع قضايا المرأة لأن الدليل هو المسلك إلى معرفة حكم الله تعالى في المسألة، أما ما ليس بدليل فلا يجوز إتخاذه دليلا مهما قدرنا المنفعة في إتخاذه كما لا يصح فهم الدليل على غير وفق ما فهمه عليه سلفنا الصالح وهذه قضية أخرى من قضايانا مع الأهوائيين والمتنازلين.
هذا والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين.
الكاتب: د. محمد بن إبراهيم بن حسن السعيدي.
المصدر: موقع رسالة المرأة.